الحمد لله الذي شرف عشر رمضان على كل عشر، وخصّها بليلة هي خير من ألف شهر، قدر فيها كل ما يجري في السنة وسماها ليلة القدر. فكم خبر صح فيها من الأجر. وأشكره على نعم تجل عن العد والحصر. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة يوم الحشر.
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أشرف مرسَل أنزل عليه، وأفضل الذِّكر. اللّهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين حازوا السبق، ومعظم الأجر، وبذلوا أنفسهم، وأموالهم لربهم، في حالتي العسر واليسر.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى، واغتنموا كرم المولى، صاحب الفضل والإحسان، كما جاء في الذكر.
ابن آدم، يا من ضيع عمره في لهوه وغفلاته، استدرك الخير، قبل عجزك عنه وفواته، فإن كان لك عذر فيما ضيعته؛ فعند الله هاته.
هذا شهر رمضان أفضل أشهر العام، قد ذهب معظم لياليه والأيام.
من هو الذي انكف فيه عن الغيبة، والنميمة، والمعاصي، والآثام؟
قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: ” ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام عن اللغو والرفث”.
ومن الذي قام واستقام، وحفظ الصيام؟ اسمع يا أخي،و يا أختي هل أنت يقظ، أو من النيام؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ الأهل، وشد المئزر. وقال: ” من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه”.
عباد الله، شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل.
من كان منكم أحسن؛ فعليه بالتمام. ومن كان منكم أساء، أو فرط؛ فليستدرك ما بقي من الليالي والأيام. ويتحرى ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر من رمضان، وأراها ليلة سبع وعشرين، كما ذكر ذلك الأئمة الأعلام.
وليغتنم الفرص الطيبة، وليبادر بالتوبة الصادقة، إلى الملك العلام، مادام أن التوبة مقبولة، وبابها مفتوح، وعلَم الجنة للساكنين يلوح.
ويشرع الاعتكاف في هذه العشر المباركة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يعتكف العشر الوسط؛ يلتمس فيها ليلة القدر. ثم أوحي إليه أنها في العشر الأواخر؛ فاعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله.
متى يُغفر لمن لم يغفر له في رمضان؟ متى يربح من رمي فيه بالبعد والحرمان؟ متى يشفى قلب، لم تشفه آيات القرآن؟!.
يا لها من خسارة، -ولا حول ولا قوة إلا بالله- لا تشبه الخسران؛ أن يُرى المحسنون يوم القيامة، فازوا بالقرب والرضوان، وأزلفت لهم الجنات وألبسوا التيجان، وأعطوا المُلْك والخلد، وأدخلوا إلى الجنان، وقد رمي المفلس، بالطرد والإبعاد والحرمان، يُغلُّ ويجرُّ إلى النيران.
قُم على أقدام الذل وقت السحر؛ فللرحمة وقت السحر شأن. وناد في ظلم الليل: يا الله، يا صاحب الإحسان.
عباد الله، أين من كان معكم في الزمان الماضي؟ اختطفته المنايا وهو غير راضي.
شهركم هذا هل له عوض؛ فيشتري، أو يباع؟ وهل يستدرك منه ما ضاع؟ إذَا خسر الإنسان فيه، فمتى يربح؟ من لم يربح في رمضان، ففي أي وقت يربح؟
من فاته الزرع في وقت البذار فما
تراه يحصد إلا الهم والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
في دهره وبحبل الله معتصما
ليلة القدر تفتح فيها الأبواب، ويُقرَّب فيها الأحباب. يصل فيها الرب ويقطع، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويشتت ويجمع، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، وتجري أقلامُ قضائِه، بما يقدر ويقضي. قال تعالى في محكم الذكر: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [الدخان:5].
ولله حكمة في إخفائها؛ حتى يجتهد المسلمون في الليالي كلها.
وفي الحديث: ” لو أذن الله لي أن أخبركم بها، لأخبرتكم، هي في العشر الأواخر من رمضان”.
وقال أبي بن كعب: إن الشمس تطلع صبيحتها، لا شعاع لها.
عباد الله، اجتهدوا رحمكم الله في حفظ الصيام، والحرص على القيام، والتدبر للآيات، عند سماع القرآن.
يا أهل الإسلام، أما آن لكم أن تهجروا الفواحش والآثام، وتقبلوا على طاعة الملك العلام؟.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.